المادة    
أما المقصود بالاستغفار فإن أصل هذه الكلمة في اللغة مادة ثلاثية، وهي (غفر) من الغفر، والغفر هو الستر، ولهذا فسر بعض العلماء الاستغفار بأنه طلب الستر، فوقفوا عند المعنى اللغوي؛ لأن أي فعل ثلاثي تدخل عليه الهمزة والسين والتاء يتحول إلى طلب، مثل: (استكتب)، أي: طلبه أن يكتب، (استطعم) أي: طلبه الطعام، وكذلك (استهدى)، كما في حديث أبي ذر : ( يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم ).
فقالوا: الغفر في اللغة هو الستر، فإذا أدخلنا عليها أحرف الطلب أصبح المعنى: طلب الستر، فالاستغفار -إذاً- هو طلب ستر المعصية. هكذا قالوا.
والحقيقة أن هناك معنى أوسع من ذلك كما يقول الحافظ ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم عند شرح حديث أنس رضي الله عنه، وهو الحديث الثاني والأربعون، وهذا الحديث فيه ثلاث جمل عظيمة جداً يبين الله بها أسباباً ثلاثة لحصول المغفرة، حيث يقول أنس رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( قال الله تعالى: يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي )، فالسبب الأول: الدعاء مع الرجاء.
والسبب الثاني: الاستغفار، حيث قال: ( يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ).
والسبب الثالث: تحقيق التوحيد، حيث قال: ( يا ابن آدم! إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ) .
إذاً: أسباب حصول المغفرة ثلاثة أمور: الدعاء مع الرجاء، والاستغفار، وتحقيق التوحيد لله تعالى.
وقد شرح العلامة ابن رجب رحمه الله هذا الحديث العظيم شرحاً قيماً، ومن جملته قوله: (والاستغفار طلب المغفرة، والمغفرة هي وقاية شر الذنوب مع سترها)، فأضاف إلى الستر وقاية شر الذنوب، ولعل هذا الكلام منه رحمه الله مأخوذ عن ابن القيم ، فإنه رحمه الله قال في المدارج بعد أن ذكر الاستغفار المقرون بالتوبة والمفرد: (فالاستغفار المفرد كالتوبة، بل هو التوبة بعينها، مع تضمنه طلب المغفرة من الله، وهو محو الذنب وإزالة أثره ووقاية شره، لا كما ظنه بعض الناس أنها الستر فبعض العلماء ظن أن المغفرة هي الستر، فإذا ستر الله على العبد في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معاً فقد غفر له).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (فإن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر)، وهذا من فقهه رحمه الله، فالله ستير يحب الستر، وكم يستر على قوم لا يتوبون ولا يستغفرون، وإنما يمهلهم ويملي لهم، إما لأجل أن يتوبوا وأن يستغفروا ويراجعوا أنفسهم، وإما استدراجاً، فالفرصة لهم سانحة، والله هو العليم بما عملوا وبما سيعملون وبما سينتهي إليه أمرهم ومآلهم، فالمقصود أن الله يستر على من يغفر له ومن لا يغفر له، فليس الستر خاصاً بالمستغفرين.
قال: (ولكن الستر لازم مسماها أو جزؤه)، يعني أن الستر جزء من المغفرة، ولا شك في أنه إذا غفر له فقد ستره في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما.
قال: (وحقيقتها) يعني: حقيقة المغفرة (وقاية شر الذنب، ومنه المغفر لما يقي الرأس من الأذى) والمغفر يوضع على الرأس في الحرب ليتقي به الفارس ضرب السيوف أو النبال أو الرماح.
قال: (والستر لازم لهذا المعنى، وإلا فالعمامة لا تسمى مغفراً)، فالعمامة تستر الرأس ولا تسمى مغفراً؛ لأنها لا تقي الأذى ولا تنفع حال الضرب.